خلال ما يقارب الـ50 عاماً منذ قيام الحملات الصليبية وبداية مملكة القدس الأوروبية بالشرق في 1099 استمر الوجود الصليبي في التمدد بلا مقاومة تذكر، إذ تزامن مع حالة من التفكك والصراعات الداخلية عصفت بالعالم الإسلامي، وتركت الأراضي العربية فريسة سهلة أمام أي محتل يرغب في بسط سيطرته، حتى بدأ حكام المدن العربية في التسليم بالأمر الواقع، وعقد اتفاقيات وتعاون مع الإمارات الصليبية أحياناً ضد منافسيهم من الأمراء المسلمين.
لكن الانشقاق الأكبر كان متمثلاً في الخلاف الدائر بين السنة التابعين نظرياً للخلافة العباسية في العراق وسوريا والشيعة تحت مظلة الخلافة الفاطمية في مصر، وهو ما نجح الصليبيون في استغلاله بأفضل صورة ممكنة حتى منتصف القرن الـ12، حين صعد لاعب جديد إلى الساحة ونجح نور الدين زنكي في وضع حد للتشتت العربي ووحد سوريا والشام في دولته، ومثل تهديداً مباشراً للمصالح الصليبية، ومع تجنب كلا الطرفين الدخول في مواجهة مباشرة لا يحمد عقباها، في ما يشبه لحد كبير المصطلح الحديث للحرب الباردة، حتى انتقل الصراع بين زنكي والصليبيين إلى السيطرة على مصر، والمعارك التي أديرت بالوكالة على أرض محايدة يسعى كلاهما للظفر بها.
منحت الحملة الصليبية الأولى فرسانها الأوروبيين ثلاث إمارات رئيسية، القدس وأنطاكية والرها، وبعض المدن الصغيرة والقلاع المنتشرة بينها، في ما أطلق عليه «Outremer» أو «مملكة ما وراء البحار»، لكنها في الوقت ذاته ظلت اتحاداً ضعيفاً بلا نظام حكم واضح أو سلطة مركزية قوية، تمكنها من الدفاع عن مكاسبها من الأعداء المحيطين بكل الاتجاهات، ومعتمدة بشكل كامل على المساعدة المباشرة من أوروبا.
ورغم كون المملكة بالكامل تحت سلطة ملك القدس فإنها كانت أقرب لجزر معزولة عن بعضها، حيث تفصل مساحات واسعة بين كل إمارة والأخرى، وفرقت بينهم المصالح المتضاربة أحياناً، وفي حين غادر أغلب المشاركين في الحملات الصليبية بعد نهايتها، وقعت مهمة الحفاظ على المملكة وتوسيع رقعتها بالغزو المنظم على الأعداد القليلة ممن استقروا بالفعل في الشرق.
وهو ما حاوله ملوك القدس الأوائل أمثال جودفري (Godfrey of Bouillon) وشقيقه بالدوين الأول (Baldwin of Boulogne) بفرض السيطرة على مواقع إسلامية مثل أرسوف والقيصرية، وإجبار عسقلان على دفع جزية سنوية في مطلع 1100، وكذلك كسر شوكة المقاومة الفاطمية خلال الهجمات المتكررة على القدس في 1101و1102 و1105، ثم احتلال الساحل الفلسطيني بالكامل وحيفا ويافا وعكا بحلول 1103، حتى تم تكوين الإمارة الرابعة في 1109 بسقوط طرابلس، ثم بيروت وصيدا 1110.
بينما حاول الصليبيون مهاجمة مصر في 1118، لكنهم تراجعوا مع وفاة الملك بالدوين الأول أثناء الحملة، ومجدداً في 1123، لكنهم توقفوا بعد الوصول إلى الفرما مع اتفاق الوزير الأفضل على هدنة ودفع جزية كبيرة، طبقاً للمؤرخ المصري أيمن فؤاد سيد في كتاب «الدولة الفاطمية تفسير جديد».
سقطت مدينة صور في 1124 بعهد بالدوين الثاني (Baldwin II) الذي حاصر حلب في 1128 لكنه اضطر للتراجع مع وصول مساعدات من الموصل، ثم أطلق حملة ضخمة على دمشق في 1129، قدرها المؤرخ الدمشقي ابن القلانسي بما يزيد على 60 ألف مقاتل جمعهم بالدوين من مناطق متفرقة عبر أوروبا والإمارات الصليبية، ونجح في السيطرة على مدينة بني ياس، ولكن فشل الصليبيون في اختراق دفاعات دمشق، وتراجع بالدوين من جديد بعد اتفاق على جزية سنوية قدرها 20 ألف دينار استمرت دمشق في تقديمها لسنوات طويلة بعد الحصار، طبقاً للمؤرخ الإنجليزي كريستوفر تيرمان في كتابه «The World of the Crusades».
ثم دخلت المملكة الصليبية مرحلة ضعف وانقسامات، خصوصاً مع قلة الاهتمام من الملوك الأوروبيين بالشرق، انتهت إلى سقوط الرها أولى الإمارات الصليبية في 1144، تبع ذلك كارثة أخرى بفشل الحملة الصليبية الثانية في 1148، لكن مع مطلع 1150 بدأت مرحلة جديدة من التمدد الصليبي، كان أهمها استحواذ الملك بالدوين الثالث (Baldwin III) على عسقلان المهمة، والمنفذ الوحيد للفاطميين في فلسطين التي استخدموها عقوداً بوصفه مركز انطلاق هجماتهم على القدس، بعد حصار طويل دام ثمانية أشهر انتهى باستسلام المدينة في 1153، وأكمل هجومه الأول على مصر بذات العام، لكنه فشل بسبب مصاعب لوجستية مع نقص الإمدادات وشدة المقاومة الفاطمية، لكن التقدم صوب مصر أصبح الخيار المنطقي الوحيد للمملكة الصليبية، مع استحالة التوسع في الشام بعد أن أحكم نور الدين زنكي قبضته على سوريا، وسيطر على دمشق حليفة القدس وأكبر أطماعها في 1154.
استلم نور الدين زنكي من والده مشروع مملكة فسيحة، بدأها عماد الدين زنكي حاكم الموصل في 1128، بالسيطرة على مدينة حلب المحورية وما معها من نفوذ وأهمية تاريخية، ثم حماة وحمص تباعاً، مستغلاً حالة الانقسام والصراعات التي أضعفت الشام، وانطلق في رحلة لتوحيد المدن السورية تحت إمرته، أحياناً بالعنف الوحشي كما في حالة إخضاع بلعبك في 1139، وهو ما عكف عماد الدين على تكراره لبث الرعب في نفوس أعدائه.
دخل في صدام مع الصليبيين في بادئ الأمر كعرض جانبي لصراعه مع الأمراء المسلمين، بعد استعانة كل من دمشق وديار بكر بالصليبيين ضد هجمات زنكي في 1140 و1144، حتى حول أنظاره تجاههم ونجح في مباغتة إمارة الرها، واقتحم المدينة بعد أن انتصر على حاميتها في ديسمبر 1144، فيما سماه المؤرخ الصليبي وليم الصوري «William of Tyre» بكارثة محققة تهدد وجود المملكة الأوروبية، وهو ما كان أساس الدعوة للحملة الصليبية الثانية مباشرة.
لكن جهود عماد الدين انتهت في 1146، بعد اغتياله عن طريق أحد خدمه، لتنقسم مملكته بين أبنائه سيف الدين في الموصل بعيداً عن المسرح الصليبي، ونور الدين في حلب بقلب الصراع القائم، وهو ما أدركه نور الدين سريعاً بمواجهة هجمة صليبية مفاجئة لاستعادة الرها بنفس العام، نجح في التصدي لها وتثبيت أقدامه في أول اختباراته بوصفه حاكماً قوياً لا يستهان به.
وحاول بعد ذلك اتباع خطة والده والظفر بدمشق، فتزوج من ابنة حاكم المدينة معين الدين أنر بعد العودة من الرها، وأقام تحالفاً صورياً مع دمشق بانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض عليها، حتى وصلت جيوش الحملة الصليبية الثانية بقيادة ملوك فرنسا لويس السابع (Louis VII) وألمانيا كونراد الثالث (Conrad III)، رداً على سقوط الرها، ورغم تلقيهم هزائم مخجلة في الطريق عبر تركيا من السلاجقة وقع ضحيتها أغلب قوات الحملة، فإن الآلاف من الفرسان والجنود الأوروبيين نجوا ومثلوا خطراً بالغاً على الاستقرار المؤقت الذي أقامه نور الدين.
وبينما استعد زنكي وطلب تعزيزات من شقيقه في الموصل لتجهيز حلب كموقع الهجوم المنطقي للحملة قرر قادة الحملة بشكل مفاجئ التقدم نحو دمشق في يوليو 1148، التي كانت في تحالف مع القدس وتؤدي جزية سنوية لضمان استمرار العلاقات، مما أربك حسابات كل الأطراف المشاركة في الصراع على الشام، ودفع حاكم دمشق أنر إلى طلب العون من نور الدين الذي استقبل مهاجمة دمشق بصدر رحب، فبينما تفادى المعركة في قاعدته بحلب كانت مصيبة والد زوجته سبباً لزيادة نفوذه في دمشق.
وبعد حصار مدمر للمدينة فشلت الحملة في اختراق جدران دمشق، وعانى الطرفان من خسائر فادحة انتهت لانسحاب الصليبيين بخزي وفضيحة مدوية، قضت على أي فرصة لقبول سكان دمشق باستمرار العلاقات مع مملكة القدس أو دعم أنر في محاولاته لإعادة التحالف من جديد، فيما ارتفعت أسهم نور الدين بوصفه فارس الجهاد ضد الصليبيين داخل دوائر الحكم في دمشق والعالم العربي.
ثم استغل نور الدين صدمة فشل الحملة الصليبية الثانية، وهزم أنطاكية في معركة عنتاب 1149، وقطع رأس حاكمها رايموند الثاني (Raymond II) وأرسلها إلى الخليفة العباسي في بغداد احتفالاً بالانتصار الكبير، وتمكن بعدها من استكمال انتصاراته بغزو مدن حَارِم وآفاميا حول أنطاكية، حتى أجبر الإمارة الصليبية على معاهدة مذلة بنفس العام، منهياً أي دور حقيقي لأنطاكية في الصراع، ليصب تركيزه على دمشق من جديد.
مع وفاة أنر بنفس العام وانتقال السلطة إلى خليفته مجير الدين أبق الذي حاول الحفاظ على سياسة سلفه في التعاون مع الصليبيين ضد نور الدين، بعد فشل الأخير في حصار دمشق مرتين خلال 1150 و1151، حتى تمكن زنكي أخيراً من دخول دمشق في 1154 بمساعدة أهلها بعد ثورتهم على مجير الدين مع قطع نور الدين قوافل الطعام عن المدينة ودفعهم للمجاعة، طبقاً للكاتب اللبناني أمين معلوف في «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، ومعها وصل زنكي لقمة مسيرته وتمكن من توحيد الشام بالكامل لأول مرة، ومع العراق وسوريا بيد أمينة، بات الطريق أمام مصر مفتوحاً على مصراعيه.
خلال العقد السادس من القرن الـ12، انتقل الصراع بين نور الدين زنكي وملوك القدس إلى مصر، فبضمها يتمكن نور الدين من محاصرة الصليبيين فعلياً من جميع الجهات، مع إنهاء الانقسام الإسلامي بالقضاء على الخلافة الفاطمية، وفتح الطريق أمام رد إسلامي شامل ضد المملكة الصليبية، مستغلاً ثروات وخيرات مصر الطائلة في تمويل حملاته، وهو ما أدركه الصليبيون ووجهوا أنظارهم نحو الإسكندرية، مركز التجارة الأهم بين الشرق والغرب، ومفتاح التجارة الآسيوية القادمة عبر البحر الأحمر وصولاً لأوروبا، وبالسيطرة على أرض النيل وثروات مصر يمكن للمملكة الصليبية أخيراً الصمود من دون الحاجة لمساعدات مستمرة من أوروبا، ومواجهة خطر زنكي المستمر.
ولم تساعد أحوال مصر في صد الأطماع الخارجية، بل عملت حافزاً لبدء السباق على غزوها، فكانت تلك الفترة عصر ضعف للفاطميين، تناوب على حكمها مجموعة من الخلفاء الصغار والضعفاء، حتى استقرت السلطة في يد الوزراء والقادة العسكريين.
ومنذ اغتيال الوزير الأفضل بن بدر الجمالي في 1121، دخلت البلاد في حالة صراع مستمر على السلطة، وتناحر دائم بين الوزراء وأتباعهم على منصب الحاكم الفعلي لمصر، الذي وصل أقصاه في عهد الخليفة العاضد، حين تولى شاور الوزارة في 1163، قبل أن يتخلص منه ضرغام أحد قادة الجيش في انقلاب مفاجئ على السلطة، ليهرب شاور بحياته إلى سوريا مصمماً على الانتقام.
وبذات الوقت صعد عموري الأول (Amalric I) لعرش القدس بعد وفاة شقيقه بالدوين الثالث في 1163، وعلى قمة أهدافه استمرار خطة شقيقه في السيطرة على مصر التي هدد الملك الراحل باحتلالها مرة ثانية في 1160، لكنه تراجع مقابل جزية سنوية ضخمة قدرت بـ60 ألف دينار من الذهب، مما وضع مصر بشكل صوري تحت حمايته، حتى استغل عموري الفوضى والانقلاب في مصر، بهجوم وحصار على مدينة بلبيس سرعان ما أثبت فشله واضطر للتراجع في نهاية 1163 بعد فتح سدود النيل على قواته وغرق جنوده.
بينما التقى شاور نور الدين زنكي في دمشق وطلب مساعدته للعودة للسلطة في مصر ضد ضرغام مقابل ثلث خراج مصر السنوي، وبعد تردد وافق نور الدين رداً على محاولة غزو عموري الفاشل، وأرسل أحد أهم قادته وأكثرهم إخلاصاً له وهو أسد الدين شيركوه، إلى مصر مع جيشه بصحبة شاور في مطلع 1164، إذ حقق بعض الانتصارات ووصل إلى العاصمة القديمة الفسطاط، ثم سقط ضرغام في إحدى المعارك التالية، وعاد شاور إلى منصب الوزير، قبل أن ينقلب على حليفه شيركوه، ويطلب العون من عموري في القدس مقابل جزية طائلة لمساعدته.
وعاود عموري الكرة من جديد وحاصر شيركوه وجيشه في بلبيس بمساعدة شاور، ويروي مؤرخ الموصل ابن الأثير أن نور الدين شدد من ضغطه في سوريا بالهجوم على مدن حارم وبني ياس، مما اضطر عموري للتراجع والتفاوض مع نور الدين، وتم توقيع اتفاقية عاد بموجبها كلاهما إلى بلاده واحتفظ شاور بكرسي الوزارة.
واستمرت الحرب الباردة بين زنكي وعموري في الغليان حتى اتخذ نور الدين زمام المبادرة في يناير 1167 وأرسل شيركوه بجيش مجهز لغزو مصر والقضاء على شاور، وما إن عبر شبه جزيرة سيناء حتى تبعه عموري بقوة ضخمة التقت جيش الوزير الفاطمي في القاهرة واصطدم شيركوه والصليبيون في معركة البابين قرب المنيا في مارس من نفس العام، حيث لمع نجم ابن شقيقه صلاح الدين الأيوبي، وهزمت قوات عموري الذي تراجع صوب العاصمة، في حين أسرع شيركوه بالسيطرة على الإسكندرية، وترك بها صلاح الدين حاكماً.
ثم عاود عموري وشاور الهجوم بحصار خانق على الإسكندرية تسبب في مجاعة كبيرة وانتشار الأمراض بين السكان، حتى اتفق الطرفان على وقف الأعمال العدائية مع استحالة استمرار القتال. وغادر صلاح الدين وجيشه الإسكندرية صوب دمشق مع عمه، وعاد عموري إلى القدس مؤقتاً، لكنه كان الفائز الأكبر من المعركة فقد توسع نفوذ ملك القدس على مصر بشكل غير مسبوق.
طبقاً للفقيه والمؤرخ أبو شامة المقدسي في «كتابه الروضتين في تاريخ الدولتين»، عقد عموري اتفاقية مع شاور تم بموجبها نشر حامية صليبية لأول مرة في القاهرة ورفع علم مملكة القدس على الإسكندرية، لمنع نور الدين من معاودة الكرة، مع ارتفاع الجزية السنوية إلى 100 ألف دينار، لتتحول الخلافة الفاطمية صورياً إلى تابع للملك الصليبي، من دون موافقة الخليفة العاضد الذي وصفه أبو شامة بأنه «ليس له من الأمر شيء ولا يعلم شيئاً من ذلك، فقد حكم عليه شاور وحجبه».
لكن عموري لم يكتف بالسيطرة الشرفية على مصر والجزية السنوية التي عدها نقطة في بحر ثروة الوزير شاور، وبعد خطابات استغاثة من حاميته المكروهة في مصر، خصوصاً مع تزايد الاعتراضات في البلاط الفاطمي على وجود الصليبيين في القاهرة.
قرر في العام التالي ضم مصر لمملكة القدس رسمياً، وبدأ غزوه من جديد لمصر بهجوم مفاجئ في أكتوبر 1168، بمذبحة في مدينة بلبيس أراد بها إرهاب شاور والمصريين، ودفعهم إلى الاستسلام أمام تقدمه، وكرر نفس الأمر في مدينة صان الحجر، حتى أمر شاور بحرق أجزاء من العاصمة القاهرة مخافة سقوطها بيد عموري، طبقاً للمؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في كتابه «اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء»، لكن سياسة عموري أدت لنتائج عكسية وزادت من شدة المقاومة، مما عطل الغزو لأسابيع وسط وعود ومماطلة من الوزير لكسب الوقت، حتى أرسل الخليفة العاضد استغاثته إلى نور الدين في دمشق.
ولم يتردد نور الدين عن تلبية الطلب، وأرسل تلك المرة مجموعة من أكبر وأهم رجاله، وأعداد مهولة من الجنود والفرسان بصحبة شيركوه الطامع في الانتقام مع بداية ديسمبر 1168، وتمكن شيركوه من التقدم وعبور النيل إلى القاهرة قبل أن يتمكن عموري من التصدي لقواته، مما أجبر الصليبيين على الانسحاب مع استحالة مهاجمة جيوش مصر وسوريا معاً، وانتهت أحلام عموري الأول بغزو مصر التي وقعت أخيراً في يد الدولة الزنكية.
لم يضِع شيركوه الوقت ففي يناير 1169 تخلص من شاور أثناء خروج الوزير من قصره للتشاور في معسكر شيركوه، وسلم رأس شاور للخليفة العاضد الذي عين شيركوه بدوره في منصب الوزير الجديد، ومعه حسم نور الدين زنكي الحرب الباردة بانتصاره على عموري الأول في مصر، وفرض سيطرته على أغنى وأهم البلاد الإسلامية ومركز المقاومة ضد الصليبيين خلال العقود القادمة.
ثم توفي شيركوه خلال شهرين من دخوله مصر، وانتقلت السلطة لابن شقيقه صلاح الدين الأيوبي الذي تقلد منصب الوزير كذلك، وأعلن تبعيته لنور الدين في دمشق في بداية الأمر، لكن عموري حاول استغلال انتقال السلطة والتمردات الفاطمية على صلاح الدين، خصوصاً من الجند السودانيين وأتباع الخليفة، وبدأ في أكتوبر 1169 غزوه الخامس والأخير لمصر، بمساعدة أسطول بيزنطي ضخم، ونجحوا في الوصول إلى دمياط ومحاصرتها.
لكن الخلافات بين الصليبيين والبيزنطيين منعت من تقدم الغزو وحدت من قوته، وفشل الحليفان في الاتفاق على استراتيجية هجوم واحدة، حتى هم البيزنطيون بالهجوم منفردين، بينما عطلهم عموري بأن أعلن اتفاقه مع صلاح الدين على وقف الحرب والانسحاب، وانتهت المحاولة بالفشل بينما ثبتت دعائم حكم صلاح الدين في مصر، كما يرى المؤرخ البريطاني توماس أسبريدج في كتابه «The Crusades: The Authoritative History of the War for the Holy Land».
ولم تتعافَ مملكة القدس بسرعة من المعارك المتتالية التي عانت فيها من خسائر باهظة في المال والجنود وسط غياب دعم حقيقي من أوروبا، ومع هجوم صلاح الدين على ميناء ومدينة إيلات في 1170، وخسارة الصليبيين منفذهم الوحيد لتجارة البحر الأحمر دخلت القدس مرحلة جديدة من الصراع حوصرت فيه من جميع الجهات تحت ضغط نور الدين المتواصل، لكن كانت بارقة الأمل في الخلافات التالية داخل الدولة الزنكية، بين زنكي وصلاح الدين الذي رفض طلبات زنكي المتكررة لإسقاط الخلافة الفاطمية والدعوة للخليفة العباسي حتى أعلن صلاح الدين نفسه سلطاناً لمصر بعد وفاة الخليفة العاضد في 1171، وبدأت التوترات بين القائدين فيما رآه نور الدين تمرداً على سلطته وتحدياً لدولته في مصر، مع تراجع صلاح الدين عن النزول على رغبة سيده والتخلي عن حصار قلعة الشوبك ثم حملة شرق الأردن، قبل وصول نور الدين تجنباً لمقابلته أو المواجهة المباشرة.
وهدد زنكي بغزو مصر بنفسه والانتقام من صلاح الدين، متهماً السلطان بالتعاون مع الصليبيين عليه، ولم تعد الأمور إلى نصابها بشكل كامل حتى وفاة نور الدين وعموري في 1174، وبدأ صلاح الدين توحيد المدن الإسلامية من جديد تحت رايته، وصولاً لمعركة حطين في 1187، ونهاية مملكة القدس الصليبية بشكل فعلي.